السبت، 20 أغسطس 2016

التساؤلات - دعوة لفرز الأفكار

التساؤلات

س1: هل يمكن أن نتصور أن هناك من يدعي - رغم إعجاب كل منا بعقله – أن كل ما يعتقده من ثوابت ، وكل ما يعرفه من معارف، وكل أمر يعتقد صحته أو خطأه ، كل هذه المعارف- التي يمكن لنا أن نسميها ثوابت الفرد مجازا - صوابا .
الإجابة الحتمية المتوقعة والمنطقية هي لا . وهذا سيجعلنا نستنتج – ضمنا و بناءً على حتمية الإجابة السابقة- أن ليس كل ما يحمله عقلي من معارف ، وثوابت ،ومعتقدات صحيح .
وهذا سيجعلنا نعود لمقولة ديكارت في سلة التفاح ، وضرورة إعادة فرز معارفنا ؛ للتأكد من مدى صحة تلك المعارف ، والإبقاء على الصواب منها ، وطرح ما يثبت خطأه .
ما يعنيني هنا ، هو معرفة ما يحتويه عقلي بداية من معارف ، وتجريدها لتصبح أكثر تفرداً، وأقل اشتباكاً مع غيرها من المعارف ، ليسهل بعد ذلك دراستها وقياسها والوقوف على مطابقتها للحقيقة .
 ما قدمنا به لن يوصلنا إلا إلى حزمة أخرى من الأسئلة . يكون طرحها الآن أكثر ضرورة .
س2: كيف تكتسب المعارف ؟
س3: هل يمكن أن يكون الفرد محايداً وهو يناقش ثوابته ، ويعيد فرزها ؟
س4: ما هو الصواب والخطأ بداية ؟
س5: ما هو الثابت والنسبي ، والحقيقة والوهم ؟
س6: هل يمكن أن نجعل من العقل ميزاناً يقاس عليه ، للوقوف على صحة المعارف ، ولو افترضنا جدلا أن هذا ممكن ، فأي عقل ولأي إنسان ، يمكن أن نسلم لعقله، ليقول لنا هذه المعارف صحيحة ، وتلك خاطئة ؟

لا آمل أن يكون عقلي قادراً أن يضع الإجابات لهذه الأسئلة . ولكن كل ما يمكنني أن أجهد فيه عقلي هو محاولة التجول بين ما يمكن أن يقربنا لها من معارف وفروض وتساؤلات .
·       كيف تكتسب المعارف ؟ كم حيرني هذا السؤال الساذج .
 فالمعارف تكتسب من الطفولة الباكرة ، ويستمر اكتسابها حتى الممات . حيث يختلف مستوي وعينا -حال تلقي المعرفة- حسب مراحلنا السنية ، وما حزناه وقتها من نضج .
ويسهم في هذه العملية عدة مؤسسات ( الأسرة – المدرسة- المؤسسة الدينية – الشارع-الإعلام ) ، وأشخاص لهم مستويات متفاوتة من المعرفة ، والانحياز .
كما يتفاوت حيادنا نحن في نقدنا لما يقدم لنا من معارف حسب متغيراتنا المزاجية ، والنفسية ، والعمرية .
بل والأهم من هذا كله ، هو مدى كمال العقل أبدا وقدرته على قراءة الواقع قراءة كاملة في كل حين .
كل ما سبق يجعلنا نعود ونؤكد أنه ليس هناك عقل - في وسط كل هذه العوامل المتباينة والتي يستحيل أن تتشابه أبدا أو تتناسق - يمكن أن يسلم من تسرب معارف يعتقد صاحبها فيها صحة أو صوابا، و في الحقيقة هي غير ما يظن ويعتقد تماما.
عندما أراد أن يصنع أفلاطون جمهوريته ، ويوحد فيها منهج تشكيل العقل ، فقد ثبت كل العوامل التي كان يراها مؤثرة في تشكيل العقل ، ولكنه قطعا لم يكن يحلم . ولا أنا كذلك أستطيع أن أحلم ، بآلية ما يمكن من خلالها توحيد الحالة الذهنية ، ولا النفسية لجمهور المتعلمين ؛ لنصل لدرجة واحدة من المعرفة ، والقناعة لدي المتعلمين .
يحضرني هنا طرحا أعتقد أنه لن يزيد المسألة وضوحا بقدر ما يزيدها تعقيدا . العين الآدمية تري عددا محددا من الألوان ، وحيزا معلوما من الأطوال الموجية للضوء . والأنف البشرية كذلك تميز روائح محددة وكذلك الموجات التي تتأثر بها محدودة . وكذلك الأذن . الكلب مثلا يميز الروائح بشكل أكثر كفاءة من البشر . القط مثلا لا يري كل الألوان التي نراها , بل يري  منها الأبيض والأسود فقط. والحصان يرى الأبيض والأسود والأصفر والأخضر. الفأر وبعض الزاحف ، تستطيع أن تشعر ببعض الموجات التي تسبق الزلازل والبراكين ، بينما لا يشعر بها الإنسان .
ألا يجعلنا هذا نفكر ماذا لو أبدلت عيني بعيني حصاني ؟! فكيف سأرى الكون ؟، وماذا سيحدث لو استعرت أذني خفاش ، وكيف سيكون انطباعي عن مدرج الجامعة حين يمتلأ بالطلاب  في وقت الظهيرة من شهر أبريل لو أني استبدلت أنفي بأنف كلب . وكيف ستكون رائحة حديقتي . هل يمكن لنا أن نسأل أنفسنا الآن ، هل كل ما نعرفه ونعيه حقيقي أم أنه مغاير للواقع أو مطابق فقط بقدر كفاءة أدواتنا ، أليست الحواس هي أدوات الإدخال للمعلومات الأولية والبيانات للعقل . فإذا ما علمنا بداية قصور وسائل الإدخال ، وتفاوتها في الدقة هل يمكن لنا أن نثق في دقة المعلومات والمعارف التي سيصل لها العقل بعد هضم هذه المدخلات الغير دقيقة .


·       هل يمكن أن يكون الفرد محايدا وهو يناقش ثوابته ، ويعيد فرزها ؟

أميل دوما لإلباس ثوابتي ومعارفي لباس القداسة ؛ فلا يقربها الشك ولا يلغيها النقد ، فقط عندما أشك ( بمفهومه الديكارتي ) يمكن لي أن أكون محايدا مع نفسي في مناقشة معارفي . هذا ما أعتقده وهذا أيضا غير مبرأ من الشك . فحيادي نفسه يكون نسبيا بقدر ما أستطيع أن أنزع عن معارفي ثوب قداستها . وتجريدها من طلائها القديم وما تشتبك معه من معارف . ولكن في المرات القليلة التي مارست فيها هذا الحياد المطلق ،لاحظت شيء أريد أن أضعه بين أيديكم، لاحظت أن الكثير من معارفي لها جذور قوية وقد قامت على أسس ، بينما الكثير أيضا وجدته موجودا ولم أجد له جذور . ولم أستطع أن أتصور أني كنت أعتقده قبل إعادة التفكير فيه ، بل أني كنت أسخر من نفسي أحيانا كيف أني كنت يوما ما أعتقد صحة هذا الأمر أو خطأه هكذا كما ورثته أو اكتسبته .

آلاف المعارف المنحوتة في رأسي منذ متى لا أعرف ولكنها موجودة ، من نحتها؟ ، ولما ؟، وكيف ؟، وتحت أي تأثير كنت أنا حين نحتَها ؟أو نحتَّها أنا ! . وهل هذا المزيج المتداخل والمتشابك - والذي يجتمع أحيانا ويفترق أحيانا - حين أعمله لأستخرج قرار أو لأستنتج رأي في مسألة ما .هل سينجو دوما من انحراف ؟! . لا أعتقد .

كوبرنكسون قديما كان يصدق أن الأرض مستوية كمستطيل ، الجحيم على حافته من جهة والجنة على جهته الأخرى . تُرى ماذا كان يحس عندما اكتشف كروية الأرض . جليليو كان يعرف فروض كوبرنيكسون ويعتقدها ، أن الأرض كروية وهي كذلك كما قال كوبرنيكسون مركز الكون ومحط عناية الرب ، ترى بماذا أحس عندما طور التليسكوب فرأى الأرض كرة كغيرها من الكور تدور حول الشمس . لا حظ لها يخصها دون باقي الكور المعلقة في فضاء الكون اللا نهائي . بل والأدهى من ذلك كيف لنا أن نتصور إحساسه عندما رفضت الكنيسة في زمنه أن تعترف بما رأته عينيه لأن ما رأت عيني جاليليو يناقض ثابت لديها . وكيف أحس جاليليو حين مات كمدا ، وماذا سيقول لو سَمِعَنَا الآن ونحن نقول الكرة الأرضية  .

·       هل يمكن أن يكون الفرد محايدا وهو يناقش ثوابته ، ويعيد فرزها ؟     

نعيد طرح السؤال ولكن من زاوية أخرى ، مع التأكيد أني لا أضع إجابات . هل يختلف الخلق في رد فعلهم تجاه هذا الموقف الذي نحن بصدده ؟. هذا أمرا يثبته الواقع .
هناك من يقول دائما أن ما نعرفه خير مما لا نعرفه . ويتمسك بما هو عليه من معلوم ، ويجعل أصابعه في أذنه عن الجديد . ويرفض حتى مناقشته لأنه يرفض مناقشة ثوابته .
بينما هناك من يحتفي بالجديد لمجرد جدته ، أو رغبة في ركوب موجة التجديد سواء كان هذا لدافع نبيل أو غير نبيل ، أو لرغبة في الثورة على المألوف .
بينما هناك من يتلقى الجديد بموضوعية . ويقارن بحياد بين الجديد والقديم ، ليميز بين مدى قرب أي منهما للواقع وموافقته  للأرجح والأصوب .
فكل دين جديد قد جابه الفئات الثلاث . وكل مدرسة في الفن والأدب كذلك قد صادمت الفئات الثلاثة . بل كل فكرة جديدة على مر العصور والتاريخ . 
·       ما هو الصواب والخطأ بداية ؟
هل كل أمر أو سلوك نفعله يجب أن يكون إما صوابا أو خطأً ؟ إذا فمن يحب اللون الأخضر مثلا يكون مخطأ لو أشترى قميصه أخضر اللون لأني أنا لا أحب اللون الخضر!، أم أنه أصاب , من لا يحب العسل هل يمكن له أن يحرمه على غيره . هل من يسرق من جيبي حرا في فعله هذا ؟. هل زوجة جاري يجب أن تكون له فقط ولما ؟
هناك من يقول بنسبيه كل شيء فلا يكون هناك خطأ ثابتا مجردا في كل حين ولا يكون هناك صوابا ثابتا على تجرده في كل حين ، هو فقط يكون صوابا أو خطأ باعتبار ظروفه وملابساته . فلا يستطيع أحد عندها أن يقول أن الشمس تسطع كل يوم إلا بعد أن يحدد مكان سطوعها الذي يقصده من الكرة الأرضية لأنها قد لا تظهر في مكان أخر . ولا يستطيع أحد كذلك أن يقول أن سرقة محفظتي جريمة ، ولا اغتصابي لزوجة أخي خطأ. بينما توسع البعض في تصويب وتخطيء النسبي الذي لا يحتمل وصفه بصحة أو خطأ كشراء القميص الأخضر .
المعروف أن الاثنين أكبر من الواحد . والواحد أكبر من الصفر . ورغم اشتمال كل صفه تفضيل كأكبر وأجمل على حد نسبي إلا أنه يمكن وصف مقولة أن الاثنين أكبر من الواحد والواحد أكبر من الصفر مقولة صحيحة  على تجردها لا تحتمل شك أو نسبية . هذه قضية منطقية لا تحتمل المزايدة أو التسويف .  لكن من يستطيع أن يقول أن مقولة القميص الأخضر أجمل من القميص الأزرق يمكن أن توصف بالصحة أو الخطأ مجردة .
·       ما هو الثابت والنسبي ، والحقيقة والوهم ؟
يمكن مما سبق الوقوف على تصور يمكن أن نميز به بين الثابت الذي لا يحتمل وصفه بالنسبية على أنه ما أمكن تجريده ووصفه بصحة أو خطأ ، أو أنه مسلم به كقضية : أنا أفكر إذا أنا موجود ، والنسبي ما لا يمكن تجريده ووصفه بصحة أو خطأ .
أما الحقيقة وأن شابهت الثابت إلا أنها يجب أن يكون التيقن منها أمر متاح للجميع . فلا يسع أحد أن يختلف في ثبوتها ، أي أنها أقرب إلى البديهية . أما الوهم فقد يراه البعض حقيقة ويراه البعض غير ذلك بل ويرى عكسه  ، كل فريق يرى أنه ثابت من جهته ولكن جلاءه له نسبي وغير بديهي للكل . وبغض النظر هل هو صواب أم لا ، فقد اختلف الناس في موقفهم منه . إذا هو حقيقي لدى البعض ووهم لدى آخرين . وأينما كان موقفي من الفريقين فهو ليس ثابت مطلق يحتمل صفة التوهم .
ولمزيد من التوضيح يمكن أن نشبه الثابت بالـ data  أي البيانات التي ندخلها في قواعد البيانات ( كتاريخ ميلاد العامل ، ومؤهله و محل إقامته ). هي في واقعها من البساطة والبدائية بحيث لا تحتمل الشك فيها أو المزايدة . أما ما يمكن لنا أن نستخرجه بعد ذلك من معلومات   information باستخدام برنامج excel لمعالجة قواعد البيانات (كحساب مرتب العامل عن ساعات عمله الأساسية والإضافية عن مدة معينة ) فهذا سوف يعتمد على توظيف البيانات بشكل سليم و قدرة على استعمال البرنامج وفوق كل هذا وقبله حسن اختيار البرنامج والتأكد من دقته . فالثابت هو الـ data  التي منها يمكن أن نتحرك منها والأرض الصلبة التي من فوقها نقفز وتتشابك هذه البيانات وتتفاعل لنستخرج منها ما نستنتجه من معارف من خلال سلسلة من الإجراءات التي يمكن أن تختلف وتتعقد أو تبسط منتجة تفاوتاً نسبياً . 
·       هناك استطراض لا أعرف جيداً ما علاقة بما أريد أن أقول ولكنه ورد على ذهني الآن . وهو هل يمكن أن تكون الدنيا محل تحقق إشباع كامل . علماء النفس يرون أن تحقق الرغبات المباشرة كالأكل والشرب والجنس يحقق إشباع الرغبة وقتياً ، ولكن من حيث المفهوم الكمي للإشباع ، هل يتم إشباع الرغبة كلياً في وقت إشباعها ، بل ليست هناك لذة كاملة يمكن تحققها على الأرض ، فمن يشتهي طعاماً ما لو وجده يعلم مسبقاً ما عانى ليحصل عليه ومشقة هضمه إن أكثر منه ، وما سيعاني حين يحرم منه . إذا فتحصيل لذة ما لا يكون إلا مع تحصيل منغصات تتبعها بشكل أو بآخر . فما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب البشر حقيقة ليس محله الأرض .
أعتقد أن البحث عن المطلق كالعدل والمساواة والحرية سبباً دائماً لجنوح العقل ، وانفلاته للواقع الحُلمي الميتافيزيقي ، وتركه لمنهجية التفكير الرياضي .
"خلق الإنسان في كبد" ، نعم هو في حركته في الأرض أسير لرغبات ومشتهيات تتنازعه وتزعجه وتغريه بالسعي الدائب خلف وهم الإشباع الكامل الذي لا وجود له . فعالم المطلق الأفلاطوني ( المثل ) لا مكان له على الأرض . بل أن كل مطلق إذا ما تلبس بإرادة بشرية صار نسبياً . فالعدل مثلاً صفة نطلقها على معني مطلق لم تعشه الأرض كاملاً  أبدا ولن تعيشه . ولكن إذا قلنا عدل عمر ابن الخطاب صار الكلام عن درجة مهما قاربت الكمال فإنها لم تبلغه ؛ ولذا فهي حالة نسبية للعدل غير المطلق . لا أقصد بذلك وصف عمر بنقص العدل بل العكس ، ولكن في ذات الوقت لن نستطيع تناسي بشريته التي حالت بينه وبين المطلق .
س6: هل يمكن أن نجعل من العقل ميزاناً يقاس عليه ، للوقوف على صحة المعارف ، ولو افترضنا جدلاً أن هذا ممكن ، فأي عقل ولأي إنسان ، يمكن أن نسلم لعقله، ليقول لنا هذه المعارف صحيحة ، وتلك خاطئة ؟
لا نمتلك ميزانا غير العقل نقيس به رضينا أم لم نرضى . فحتى لو صممنا موازين متنوعة لنقيس بها أفكارنا و معلوماتنا ومدركاتنا فكل هذه الموازين قد أفرزتها عقولنا وارتضت وسائل قياسها وقيمها . فاللون الأحمر مثلا في نظام . تمثله قيم
 RGB ( R = 255 , G = 0 , B = 0 )
فهذه القيم وتلك الموازين هي وإن صارت ثوابت . ولكنه العقل بداية من صيرها . وأرتضى قيمها وتعارفها . ولكن أي عقل هذا الذي يمكننا أن نعول عليه في توصيف المدركات جميعا ووصفها بثابت أو نسبي ، أو صحيح وخطأ . هذا في واقع الأمر رأس المشكلة ، وأم المتاهة . هل هو عقل فرد أو عقل امتلكته البشرية جمعاء أي عقل جمعي مفترض ( VERTIUAL MIND) أو مجموعة قيم تراكمت عبر مسار التطور الحتمي للبشرية على مر العصور مصدرها سماوي أو أرضي .
 هنا أعود فأذكِّر أني لا أعطي حلولاً لما أطرح من مشكلات ولا أدعي أني أمتلك إجابات لما أثيره من تساؤلات . قد يرى البعض أن ما أثرته من تساؤلات يمثل أموراً بديهية عنده أو مسلمات . ولكن في ظل طرح ما نراه مسلما بلا التأكد من جذوره أهي جذور حقيقية راسخة أو موروثة أو مكتسبة بطرق لا تسلم من نقد أو جرح أرى أن ما يمكن أن نسميه بديهي أو مسلماً به يجب أن يختذل ويضمحل ليأخذ حجماً جديداً ليعاد تسميته المتيقن منه .

التساؤلات 2

أرى أن التفلسف وطرح الأسئلة أمراً يجب أن يوظفه الفرد ليعود بنفع ما عليه أو على غيره . فأنا أسأل لكي أعرف أو يعرف غيري . ولو عرفت أو عرف غيري فقد زاد محتوى العقل الافتراضي - وكذلك أحب أن أسميه للبشرية – .الغريب في الموضوع أني أرى أن حلم كل مصلح أو مفكر أو عالم عاش على هذه الأرض يمكن أن نجمله في وصف ساذج بسيط ومستحيل أيضا، ألا وهو أن يترك الأرض وهي أفضل مما دخلها . أو على الأقل هذا ما أظنه أنا .
روسو كان يرى أن الحياة البدائية على سذاجتها أفضل من المدنيات المعقدة . تي . إس .إليوت كره المدنية الصناعية وتعقيدات زمن الآلة . شعراء الثورة في مصر أمل دنقل وأحمد عبد المعطي حجازي وغيرهم كثيرين  أعلنوها صرخة مؤلمة في وجه غابات الأسمنت . الرسول محمد من ألف وأربعمائة عام أعلنها أن خير القرون قرنه ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم يفش الكذب . القرآن أنبأنا أن أهل الصلاح ثلة من الأولين وقليل من الآخرين . {كل عصر يرى سابقه أكثر منه خيرية وأقل شرا} وأعتقد أن هذه المقولة رغم احتوائها على صفة التفضيل التي تفضي بنا ولا جدال إلى حدود النسبية، إلا أنها صارت من موروث العقل الجمعي الافتراضي للبشرية .
فقط لو قلنا جدلاً لو أننا تخيلنا الأرض كرة تتدحرج على جبل تري هل هذه الكرة تنزلق لأسفل أم سوف ترتفع للأعلى . هذه المقولة لا أدري لماذا أجدها دائماً نصب عيني عندما أحاول تخيل حركة الأرض الدائبة بمن تحملهم من البشر . الثابت المعرفي يؤكد أن سرعة الكرة عند بدأ تحركها من قمة الجبل ستكون وبلا شك أقل بكثير من سرعتها وهي في وسط المنزلق بفعل عجلة التسارع . فما بالنا بسرعتها وهي على وشك الوصول للسفح والارتطام بل والتفتت أو التلاشي والانفجار . هذا الانفجار الذي يعتقده كل صاحب اعتقاد سماوي والذي نسميه القيامة .
تعالوا معي نمارس لعبة كئيبة مثل كلامي . سنطرح أسئلة هي في الواقع لها إجابات نراها بديهية ولكن في تصوري مصدر بديهية تلك الإجابات لا يجاوز سذاجتنا نحن .

س1 هل العلم مفيد ؟ هل العلم سيمنع الكرة من الوصول للسفح ؟ هل الحياة مع الجهل أفضل ؟
سيتعجل البعض ويرفع إصبع الاتهام نحوي ويقول أن أعراض جنان التفلسف قد بدأت تظهر عليَّ . وأنني أسب العلم و أُرَغِّب في الجهل . وقد يتعجل آخر ويقول أن العلم مفيد وسوف يوقف الكرة حتما وينقذها من مصيرها المحتوم ، وأن الجهل مرض برأت منه البشرية والحمد لله . لي رأي قد يصدم كلا الفريقين . بل إنه يصدمني أنا . مجمله أن العلم إفراز البشر الذهني منذ الخليقة . ويمكن أن يقاس على باقي إفرازاتهم كالبول والبراز والعرق والمني والمخاط الذي أفرزه البشر منذ النشأة الأولى . وأوجه المشابهة بينه وبين بقية إفرازات البشرية كثيرة . فمثلا الإنسان يكتسب العلم بمجرد حركته في الأرض رضي ذلك أم أباه كالبول فيفرزه ولن يستطيع منعه . البول يندرس وتبتلعه الأرض ولكنه لا يفني وكذلك العلم يتلاشى ظاهره ويبقى أثره الذي يتحور ويتشكل . فلو تخيلنا الأرض وقد كدست عليها كتب الأقدمين والآخرين وكل ورقة حملت أثرا لحبر وقارناها بشكل الأرض التي لا يتلاشى عنها غائط البشر فلن يكون بين الصورتين كثير فرق . أعطوني مثلاً واحداً لإفراز بشري نحب أن ننغمس فيه وعندها سأقول لكم انغمسوا في العلم .
ولا أريد أن يظن أحد أني أدعو للجهل فهذا كلام فارغ ولن يحدث حتى لو دعوت له فسأكون هنا كمن يريد أن يمنع البشرية من ممارسة التبول وليس هذا بمستطاع وإذا أردت أن تطاع فأمر بما يستطاع . ولكن يجب أن نعلم أن العلم هو من أشد إفرازات الإنسان فتكاً وتسميماً للبشرية ودفعاً لها على منزلق الحتم . وأيضا لن تستطيع البشرية أن تحيا مصابة بحالة جهل أو احتباس في العلم قياساً على احتباس البول .
ولا أريد هنا أن يبدوا كلامي وكأنه سب في العلم أو زجرا عنه ، فلن يستطيع إنسان كائنا من كان أن يتصور الحياة بلا علم ولكن يكمن العيب الحقيقي في  طبيعة الإنسان نفسه فهو ولا فخر يشرب الماء عذبا فيخرجه بولا ويأكل التفاح فيفرزه قرفا وهكذا فالعلم عندما يناقش كقيمة مجردة يماثل الماء العذب والتفاحة ولكن بعد إضافة تلك القيمة الجميلة لهذا الكائن الملوث يعاد فرزه من جديد قرفا . فعندما نقول أن الكيمياء علم لا تستغني عنه الحضارة الإنسانية فهذا كلام جميل ولكن لو قلنا أن

 الكمياء + الإنسان = البارود ،
 الفزياء + الإنسان = قنبلة ذرية 
 يجب أن يتجه تفكيرنا لكنية هذا الكم المضاف والذي دائما ما تؤدي إضافته لكارثة ، ألا وهو الإنسان .
س2 هل شهواتنا -كحب الجنس والتملك والعلو في الأرض وكنز المال – مسالب ؟ وماذا سيكون شكل البشرية لو أفرغنا الإنسان من تلك الشهوات ؟
إن شهواتنا التي تحركنا في هذا الكون كالعطش والجوع تدفعنا للبقاء وتمدنا بالحياة ، وكلما تعقدت الشهوات كلما كان لها أثرها الأعمق في تكريس تلك الحياة وتفعيلها ، فالبحث عن الأمن أكثر تعقيدا من البحث عن الماء  ، ولذا فشهوة البحث عن الأمن ألجأت الأمم لتفعيل آليات معقدة للدفاع والأمن مثلا .
ولولا الأسود في الألوان ما كانت درجات الألوان المتعددة وكذلك لولا الظلال في أي لوحة ما كان للحقيقة بعدا ثالثا . فالأسود في اللوحة ما وضع إلا لضرورة وكذلك الشهوات ضرورة للبقاء . فلو تخيلنا مجتمعنا البشري وقد تحول فيه الإنسان لملاك لا غرائز ولا شهوات . فهل هناك من سيعمل ؟ ولما ؟. وهل هناك من ستتزين ؟ولما ؟، وهل سيكون بينهم من يخترع أو يتاجر ؟ ولما ؟ أستطيع هنا أن أجزم وبلا تردد على غير عادتي دائما أنه سيكون مجتمع لا تزين فيه ولا عمل ولا بحث ولا نماء بأي شكل ولا تنافس ولا تصارع ولا تقاتل ولا فجور و لا و لا ولكنه لن يكون صالحا للبقاء فيه ولا حتى غير مؤهل للاستمرار بحال . إذا فرغم دنس التشهي إلا أنه ضرورة بقاء . ورغم أن الأسود لون الموت إلا أن استعماله ضرورة . ولذا جُعلت الشهوات دائما في كل دين سماوي محل ابتلاء  وحسن تحكمنا بها دائما هو طريق الجنة وسوء توظيفها دائما هو طريق الجحيم . ورغم أن الديانات قد فسرت كنية الإنسان حين خلق بأنه من طين الأرض الدنس ونفخة من روح الله الطاهرة النورانية لنعي الحكمة من هذا المزيج المتناقض في جوهره . ولو تمت المعرفة العقلية الجيدة بطبيعة هذا المزيج المتناقض لتبينت لنا حقائق غاية الخطورة والرهبة . إذ أن هذا الكائن الطينوراني ( نسبة لطينيته ونورانيته ) الجسدروحاني يخضع لعوامل المد والجذر دوما بين قطبين متنافرين ومتعارضين فتشابه حركته  دوران الأجرام بين قوة الطرد المركزي والجاذبة التي تمنع انفلاته عن مداره . إلا أنه قد ثبت للفلكيين أن الكون يتمدد مع الوقت مما يؤكد حتمية انفجاره مع تقادم الزمن . وما لفت نظري لخطورة معادلة الدوران بين الطرد وجذب عدة مؤثرات وقراءات للواقع وتحليلات قد لا تخلوا من غرابة كما قد لا تخلوا من مغالطات . أن الإنسان بطبعه يوقن بما يراه ويستقربه . والمادة عنده أقرب يقينا من الغيب . أن مساره الذي اختاره منذ الخليقة مسار نزول إلى الطين لا صعود إلى النور . أن الجنة قد حفت بالمكاره والنار قد حفت بالشهوات . فطريق الأولى مر وعر وطريق الثانية ممهد حلو . ودعونا نعمل كل ما تعلمناه من حسابات واحتمالات لنتخيل مع كر السنون أين سيكون مكان هذا الكائن "الطيننوراني". ألا يعيدنا هذا الكلام إلى إعادة تأمل حال الكرة المنحدرة فوق جبل الزمن .
ما سبق يجعلنا ببساطة نستطيع التوفيق أو فهم أغلب الأطروحات الفلسفية وإن تناقدت . جدليات هيجل وحتميات ماركس لو فهمناها في ظل المعادلات التي أضافت الإنسان أو التطور الطبيعي له كقوة فاعلة ، فقط نختلف معهم في سلبية هذه القيمة المضافة للمعادلة بينما افترضوا هم إيجابية تلك القيمة المضافة ، والمثال الصريح الذي يحضرني الآن هو هذا الجهد الجهيد الذي أرسى به كانط حلمه في تأسيس شريعة إنسانية تمخضت عن إنتاج عصبة الأمم والتي تطورت بدورها للأمم المتحدة ، فقد تكونت قناعات لدي من تبع كانط واقتنع بمشروعه للسلام الدائم أن الإنسان تقوده حتمية التطور في ظل غائية خيرة للعيش في سلام يمكن أن يحلم به الفلاسفة فيولد ، والآن وبعد أقل من قرن واحد على ميلاد هذا الحلم ممثلا في عصبة الأمم ووليدتها الأمم المتحدة بعد أن أضيفت إلى الحلم النظري المجرد تلك القيمة السالبة أبدا " الإنسان " بطينورنيته التي تنصر الطين دوما ، والغائية الشريرة في حقيقتها ، تعالوا معا لنرى ما أضاف الإنسان بممارساته لأحلام كانط .
الطين فينا لا يقنعه منطق  النور ولا يعترف به ، فالحق مجرد خيالي أقرب إلى الحلم . في حين أن السيف والبارود والطائرة كلها ماديات نلمسها ونؤمن بها ونحسن استعمالها . الأرض التي تطأها قدمي وأمتص خيرها أفضل ألف مرة من العدل الذي سأوصف به حين أتركها لأصحابها . الدولار الذي سينام داخل حافظة نقودي أكثر يقينة لدي من أجر الصدقة الذي سأنتظره . للأسف هذا واقع الممارسة الطينورانية وأسفي أو عدمه لن يغير من كونها الحقيقة .
الآن صارت الأمم المتحدة وفي ظل القانون الإنساني المثالي في ظاهره ، على ما فيه من غمط للعدل من خلال ثغراته الممثلة في حق الفيتو الممنوح لبعض أفراد المجتمع الدولي تميزا لهم عن غيرهم . صارت  مع الزمن أداة سلب وسيف بطش في يد القوي يضرب به على يد من يريد من الضعفاء . أي أنه صار عدلا موجها لا يغاير في كثير عدل النبلاء والأمراء في عهود الاستعمار الإمبراطوري .
الديموقراطية وحلم الجمهوريات وحكم الشعوب لنفسها بنفسها وحق العقد الاجتماعي كل هذه الأحلام حين صارت واقعا مارسها الإنسان وأضيف إلى معادلاتها وجودا وممارسة ماذا كان مصيرها ، إلى أي نهاية سيكون مآلها . نحن الآن نعرف أن هناك أكثر من لوبي يحرك الكيانات الديموقراطية . بل وتخصصت بعض جماعات الضغط في شراء النواب والإدارات في بعض الدول التي تعد رموزا في مضمار الديموقراطية . فهل هذا الواقع يماثل بحال ما حلم به روسو في عقده الاجتماعي وجمهوريته .
ولو أجملنا كل المذاهب الفلسفية من يوم نشوء الجنس البشري وتدوينه للأفكار وتداولها نجدها جميعا وإن تنوعت يمكن أن تصنف الآن إلى مذهبين أو مدرستين . الأول يحاول تفسير الكون من منظور مادي واقعي والأخر يضع نصب عينيه غائية ميتافيزقية أو مثاليه لها دور التوجيه الخفي . وبعيدا عن التحيز لفئة لحساب فئة أو لدينية أو إلحادية . نجد أن المتأمل للفريقين يجد قصورا يمكن أن يقلل من حدته محاولة النظر للمادية على أنها صوت الطين البرجماتي الواقعي والغائية هي صوت النور المثالي الميتافيزيقي أو الماورائي . حين أجد نفسي مام هذا الخيار التوفيقي قد أطرح حزمة من الأسئلة جديدة ،
·   هل هذين الصوتين السابق ذكرهما هما كل الأصوات التي تمثل قوى الدفع والتأثير مطلقا في حركة الكرة الأرضية المنزلقة على الجبل ؟
·       هل الغائية يجب أن تكون خيرة أو بمعنى أخي هل يمكن أن تكون الغائية الدافعة شريرة وليست خيرة ؟