دراسة في أيدلوجية الثورة 2
حددنا في المقال السابق سمات الأيدلوجية
العابرة للأيدلوجيات التي أوجدت روح الميدات في 25 يناير 2011 ، وكيف صنعت التغير
بشكل ناجز وقتها في مواجهة أشد الأنظمة عتوا ، وبينا كذلك أن هذه الروح قد أصابها
الضعف ولم يمر عليها 15 شهرا، كما فندنا الأسباب التي قد يتعلل بها البعض، من فساد
إعلام، أو قوة نظام، أو اختلاف طوائف، وقلنا أنها جميعا كانت تحديات هزمتها الثورة
سابقا! هي اليوم تعاود الظهور، ولكن هل مازلت الثورة قادرة على المواجهة؟
هناك سبب ذكرته ولم أفنده بعد لأني رأيت أن
من الواجب أن نفرد له مقالا خاصا. فهناك من يقول أن من أهم تحديات الثورة هو غباء
الشعب المصري واستكانته .
وهذا في نظري من أوهى الحجج وأفسدها؛ بل
وأخطرها على التحديد وأشدها أثرا على حالة الضعف الثوري الحالية . وسأوضح لماذا.
بعد أن أنتهى غبار الحراك الثوري في الميدان
، دخلت -القوة السياسية والقيادات التي أفرزها الميدان- في حالة استقطاب؛ لا أدعي
أن جميع من مارسوه يمتلكون نفس التجرد والإيمان بالشعار الأساسي في الميدان (
الشعب يريد – والشعب خط أحمر) . وحين بدأت تتشكل الخريطة السياسية على غير ما
كانوا يتصورنها ، حيث تجسد حجم تيارات كانت محظورة ؛ وتقلص حجم أخرى كانت تناوش في
الماضي بين مكانها الديكوري المفتعل ، أو بين كونها الأعلى صوتا في ظل غياب
البدائل. وهنا كانت أهم سقطات النخبة، وأصحاب أربطة العنق البراقة الذين سمحوا
لنفسهم عنوة و بلا استحقاق يحترم الإدارة الشعبية والخط الأحمر أن ينصبوا أنفسهم
متحدثين باسم هذا الشعب، وفي نفس الوقت يحاولوا أن يلتفوا على إرادته.
فمن قال أن التيار الديني اشترى الأصوات
بالزيت والسكر ، نسي أنه يتهم الشعب في وعيه وإرادته، ومن ادعى أن التلويح بمفتاح
الجنة والنار يجزي شكك قاصدا متعمدا في وعي الشعب وإرادته، ومن قال أن الشعب جاهل
وليس لديه خبره سياسية فقد أصاب أيدلوجية الميدان في مقتل.
وهنا وجب أن نذكر أنفسنا بشعار الميدان من
جديد الشعب يريد – الشعب خط أحمر، فهل وعت النخبة؟!!
عفوا أيتها النخبة ....... الشعب يقول ، أنا
لست غبي .
مما يعجبني في خطاب بعض من أفرزتهم ميادين
الثورة من رموز، هو الرهان على وعي الشعب ، والثقه بالوعي المكنون في جينات هذا
الشعب الذي مارس النجاح والإبداع في شتى المجالات، وكل العصور تقريبا، على مدى
سبعة ألاف عام. هذه الحضارة الواعية الحكيمة التي نمت بطرقة الترس والسقاطة،
التي تسمح بدوران ترس المعرفة دوما
للأمام. فأورثت هذا الشعب بصيرة نافذه، وحكمة بالغة، للأسف لم يرقى لها من تركهم
عهد مبارك على منابر الإعلام والثقافة والفكر ممن سموا أنفسهم عنوة بالنخبة.
في علم مهارات الاتصال ، تنقسم عملية التواصل
إلى: (مرسل - رسالة - مستقبل – معيقات).
فيما يخص الرسالة، تنقسم في ذاتها لشقين، شق نسمية فعلي ( حروف وجمل وصوت وحركات ).
وشق غير فعلي، يخص ما يصل المتلقي من دلالات المصداقية أو عدمها ، ويعتبر الشق غير
الفعلي هي الأكثر أهمية في حساب كفاءة التواصل ، وليس له معايير تحدده، ولكن يمكن
أن نصفه بالبصيرة. وهو في تصوري؛ مالا يخالفني أحد في أن العالم والجاهل ، والشاب
والشيخ ، والرجل والأنثى ، بل والذكي والبليد من شعب مصر يملك منه ما يكفيه ليجيد
باقتدار التمييز بين من يصْدُقه ومن يتحايل عليه.
قد يفسر ما سبق بعض ما أنتجته التجربة من
أرقام ، فقبل أنتخابات البرلمان والشورى، كانت الهجمة على التيار الإسلامي عنيفة
من قبل النخبة ، لكن لم تجد طريقها للتصديق لدى الكثيرين، ففسرها البعض بغضب متسرع
بالقول: عشرات الساعات التي نقضيها هنا على الفضائيات نتكلم لا تساوي خطبة يلقيها
إمام على منبر، كما قال أبراهيم عيسى ، لكن للأسف أجده قد مارس نفس خطيئة النخبة
في عدم نضح الوعي بطبيعة وحكمة هذا الشعب.
مؤشرات صلاحية النظرية لتفسير الواقع تحكم على
مدى صحتها، فوعي هذا الشعب ، ودفاعه عن شعار الشعب يريد والشعب خط أحمر هو في
تصوري ما يفسر الإقبال العنيف على صناديق الاستفتاء الأول، ولم يكن هناك تهديد
بالغرامة ، ثم تأكد اندفاع الشعب خلف إرادته في انتخابات البرلمان، بينما غاب هذا
الحضور عن الشورى لأن الشعب لا يريده أصلا، وأتصور أنه لو تم الاستفتاء الأن على
بقاء الشورى أو عدمه لكان الإقبال أقوى ممن حضر انتخابات الشورى أصلا. وأتصور أن
أبقاء الشورى يحتاج قدرا من الحوار المجتمعي التوعوي، الذي يجب أن يشرح للمواطن
العادي ما للفكرة وما عليها أولا .
وأخيرا وقبل الختام ، أريد أن أوضح أن مفهوم
الوصاية التي فرضها الطاغية على شعبه قبل سقوطه، وهي للأسف الذريعة التي ترتكب بها
كل صنوف القهر والاستبداد على الأرض ، هي ادعاء أنه يعرف مصلحة الشعب أكثر منه، وهذا
للأسف ما وقعت به النخبة التي لم تثق في وعي الشعب الذي قامت للتكلم باسمه، فأنشأت
أشكالا متعددة من الولايات ، ولاية استبدادية ، وولاية النخبة ، وولاية الثائر
وولاية الفقيه ، وكلها في أغلب الأحيان نست أو تناست أن الشعب ليس محتاجا لواصي
عليه وأنه شعب راشد قد أكد رشاده باقتدار ناجز في الميدان ، بل واستمات ليعلم
التاريخ أنه شعب راشد لا يحتاج ولاية أو وصاية؛ لكن فقط كل ما يطلبه أن يؤكد أنه شعب يريد، وأنه خط أحمر.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق