أمة في غيبوبة
مقال نشرته من أكثر من عشر سنوات يحكي ما تعيشه الأمة الأن
الأمم
تمر بمراحل طفولة، فشباب وقوة، ثم كهولة ونضج، فشيخوخة وضعف، كل هذا معلوم
لكل من يقرأ التاريخ بوعي، لكن أن نرى أمة في غيبوبة وقد أبقت الأجهزة على
حالة موتها الإكلينيكي فهذا جديد، ويستحق الدراسة لما لتلك الظاهرة من جدة
تستدعي التبصر بمصير الحالة، التي يبخل عليها حاضنيها بإعلان الوفاة، إما
أملا في معجزة البعث الجديد، ينتظره البعض، ويتشكك به البعض ،أو إبقائها
بهدف تجميد الموقف؛ بينما الركب يتحرك للأمام تكريسا التخلف وتأكيدا له.
وقبل الخوض في ما أنتوي بسطه بين أيديكم من هواجس أقدم لما أقول بموضوعين
مهمين. الأول هو التذكير بحالة تاريخية لها مدلولها الذي أرى استحضاره الآن
تلك الحالة السياسية والاجتماعية والثقافية التي عاشتها روسيا القيصرية
قبل ثورة البلاشفة. فقد كانت روسيا أوائل القرن السابق تعاني من حالة فساد
سياسي، وسيطرة الطبقة المالكة للأرض على مجريات الأحداث، بينما الغالبية
الفقيرة والجاهلة والمعدمة تعيش حالة من البؤس الشديد. وقيصر العقيم
والمشوه الوجه جراء إصابة سابقة بالجدري، فجاءه قس يدعى راسبوتين وبشره
بقرب ميلاد ولي العش. ويقول البعض أن هذه البشارة كانت بعد تنفيذ الحمل
فعلا، بفضل جهود أحد حرس الملكة، والتيقن من قرب وصول ولي العرش مطعون
النسب، ما أن تأكد حمل الملكة، وتبين صدق بشارة راسبوتين القس؛ ولاه القيصر
منصب مستشار القصر الديني، وعلا نجم راسبوتين في القصر. فماذا فعل هذا
الراسبوتين، وهذا هو مربط الفرس. أولا أشار على القيصر بحرب اليابان حتى
استهلكت الجيوش الروسية كامل ذخيرتها هناك، ووصلت حصة الجندي اليومية من
الذخيرة لطلقة واحدة كل يوم. أستبدل راسبوتين كل الوزراء الناجحين بوزراء
فَشَلَه أو جهال أو عملاء .. لمن دعنا من هذا "المن" الآن فلم يكن أحد
يعرفه بعد. أرسل راسبوتين خرائط بمواقع مخازن السلاح ومصانعه لهذا "المن".
ثم زاد الضرائب حتى تسبب في ثورة الجياع المعروفة بثورة القمح. ثم اختتم
جهوده باستيراد صفة تفاح ملوثة بجرثومة الكوليرا من ملك بروسيا ( ألمانيا)
الذي أرسل راسبوتين من سنين ليمهد لغز روسيا . هذا ما حدث ويحكيه التاريخ
وما تلى ذلك أن الجيوش ملك بروسيا دخلت روسيا وكأنها في نزهة ، ولولا قيام
ثورة البلاشفة التي سارعت بقتل راسبوتين؛ لكانت روسيا قد ابتلعت بكاملها.
العبرة هنا هي أن نسأل أنفسنا كم راسبوتين قابع بين ظهرانينا وكم أنجزت هذه
الراسبوتينات من مهام لها في أمتنا تمهيدا لملك بروسيا المخفي. الأمر
الثاني وهو ما نشرته المنظمة اليهودية العالمية في نشرة كيفونيم التي تصدر
بالقدس في عددها 14 بتاريخ 2/1982 فقرة هذا نصها " لقد غدت مصر ، باعتبارها
كيانا مركزيا ، مجرد جثة هامدة ، ولا سيما إذا أخذنا في الاعتبار
المواجهات التي تزداد حدةً بين المسلمين والمسيحيين ، وينبغي أن يكون تقسيم
مصر إلى دويلات منفصلة جغرافيا هو هدفنا السياسي على الجبهة الغربية خلال
سنوات التسعينيات . وبمجرد أن تتفكك أوصال مصر وتتلاشى سلطتها المركزية ؛
فسوف تتفكك بالمثل بلدان أخرى مثل ليبيا والسودان وغيرهما من البلدان
الأبعد ، ومن ثم فإن تشكيل دولة قبطية في صعيد مصر، بالإضافة إلى كيانات
إقليمية أصغر و أقل أهمية ، من شأنه أن يفتح الباب لتطور تاريخي لا مناص من
تحقيقه على المدى البعيد ، وإن كانت معاهدة السلام قد أعاقته في الوقت
الراهن. وبالرغم مما يبدو في الظاهر ، فإن المشكلات في الجبهة الغربية أقل
من مثيلاتها في الجبهة الشرقية ، وتعد تجزئة لبنان إلى خمس دويلات ..
بمثابة نموذج لما يحدث في العالم العربي بأسره . وينبغي أن يكون تقسيم كل
من العراق وسوريا إلى مناطق منفصلة على أساس عرقي أو ديني أحد الأهداف
الأساسية لإسرائيل على المدى البعيد . والخطوة الأولى لتحقيق هذا الهدف هي
تحطيم القدرة العسكرية لهذين البلدين . فالبناء العرقي لسوريا يجعلها عرضة
للتفكيك ، مما قد يؤدي إلى قيام دولة شيعية على طول الساحل ، دولة سنِّية
في منطقة حلب ، وأخرى في دمشق ، بالإضافة إلى كيان درزي قد ينشأ في الجولان
الخاضعة لنا ، وقد يطمح هو الآخر إلى تشكيل دولة خاصة ، ولن يكون ذلك على
أية حال إلا إذا انضمت إليه منطقتا حوران وشمالي الأردن . ويمكن لمثل هذه
الدولة ، على المدى البعيد أن تكون ضمانا للسلام والأمن في المنطقة ,
وتحقيق هذا الهدف في متناول يدنا . أما العراق ، ذلك البلد الغني بموارده
النفطية والذي تـتنازعه الصراعات الداخلية ، فهو على خط المواجهة مع
إسرائيل . ويعد تفكيكه أمرا مهما بالنسبة لإسرائيل ، بل إنه أكثر أهمية من
تفكيك سوريا ، لأن العراق يمثل على المدى القريب أخطر تهديد لإسرائيل "
المصدر من ص 49: 59. والغريب أن أمريكا تريد تبرير غزوها للعراق بحماية
المنطقة من أسلحة الدمار الشامل ، فتعالوا معي نرى و أيضا من مصدرهم هذه
الفقرة والتي لن تحتاج مني إلي أي تعليق ، ففي 29/6/1975 نشرت الصحيفة
الإسرائيلية هاآرتس بقلم شلومو آهارونسون مقولة " السلاح النووي هو أحد
الوسائل التي ستقضي على آمال العرب في انتصار حاسم على إسرائيل . . فإن
عددا كافيا من القنابل النووية يمكن أن تتسبب في خسائر ضخمة في كل العواصم
العربية. وتدمر السد العالي . وبكمية إضافية يمكن الوصول إلى المدن
المتوسطة والمواقع البترولية . . يوجد في العالم العربي مئات الأهداف التي
سيبطل تدميرها كل المزايا التي حصلوا عليها بعد حرب كيبور ." الفقرتان
السابقتان كانتا بعض من كثير ذكره جارودي في كتابه الأساطير الصهيونية كما
ذكره الدكتور جمال عبد الهادي أستاذ التاريخ الإسلامي في مقال وشريط مسجل
له بعنوان "الوعد الحق والوعدالمفترى" على ما أذكر . والمزعج في الأمر أن
جارودي سجن في فرنسا، وجمال عبد الهادي سجن في مصر، بعد خوضهما في هذا
الموضوع مباشرة في التسعينات من القرن الماضي. بعد ما أسلفت من مقدمات،
أعتقد أنها رغم طولها إلا أنها ستساعدني في اختزال ما أريد قوله . فقط
سألقي الضوء على الخارطة العربية وأدع الربط بين الأحداث لذكاء التلقي .
احتلال العراق، وإزكاء الحركات القومية، وما يتم التلميح له بين حين وآخر
من نظام فدرالي أو كونفدرالي، وما سيلي ذلك من قيام كيانات قومية ومذهبية
على الخريطة الحدودية بالمنطقة، وما قد يفعله هذا من قيام حركات انفصالية
في تركيا (16 مليون كردي ) وإيران ( 7 مليون كردي ) و غير مليوني كردي في
سوريا وأربعة ملايين في العراق. حركات مذهبية انفصالية في السعودية ( شيعة
المناطق الشمالية والشرقية ) وهنا تنفتح أبواب مصانع السلاح الغربية؛ لتدعم
حمامات الدم العربية والمسلمة، بسلاح نشتريه بكرامتنا لنقتل به بعضنا.
المخطط الأمريكي في لبنان وسورية بداية باغتيال الحريري مهندس اتفاق الطائف
ولا نعلم بيد من، ولكن لا ننسى كيف أغريت العراق بدخول الكويت، هي أيدي
عربية، وأصابع شاذة . ثم خروج الجيش السوري، وتصعيد نبرة الحوار بين
المحاور السياسية والمذهبية والدينية، وما يمهد له هذا من اقتتال لا أراه
بعيدا بين فرقاء جهال يتكلمون بلسان عربي. ألا يعني هذا قرب مرور السكين
على رقابنا جميعا . ألا يعطيني هذا الحق في التوجس. أما حالة الركيزة،
والقوة العربية الكبرى مصر، مخزن خير أجناد الأرض، صاحبة ال80 مليون نسمة
فلا أتصور أنها بمعزل عن الكارثة . الفساد السياسي، وغياب سلطة القانون،
وغياب دور الأحزاب والمعارضة. و المبيدات المسرطنة، والدم الملوث، وتماس
المال والسلطة مع التشريع. مما سيولد لوبيات تشرع لمصلحة طبقة دون غيرها
لتكرس الفوارق الطبقية؛ والتي تصنع جبهة داخلية هشة؛ يمكن إثارتها بمجرد
شائعة ( كما حدث في أحداث الأمن المركزي سابقا ) وفي ظل غياب قوى سياسية
يمكن أن تطرح بدلاء للوجوه الموجودة، فماذا يسكون الحال لو حدثت أو أٌحدثت
أزمة اقتصادية مثلا، أو مُنعت المعونة الأمريكية، ما قد يحدث تعجز الدولة
دفع مرتبات موظفيها لشهرين أو ثلاثة لعجز الموازنة، وما سيترتب على ذلك هو
توقف حركة الأسواق، وكساد تجاري تتوقف معه البنوك، وتختفي استثمارات الناس
وما يلي ذلك من ثورة و انهيار السلطة، ثم لا يجد الناس بديلا يمكنهم الوثوق
به نظرا لعدم وجود حراك سياسي ناضج في الساحة السياسية . هذا السيناريو
القاتم الذي أورده ليس تخريفا ولا تشاؤما بل هو ما حدث فعلا في الأرجنتين
من 10سنين تقريبا. وتسبب في انهيار كامل للسلطة. وتغيرت خمس حكومات في خمسة
عشر يوما، أي حكومة كل ثلاث أيام، ولولا وجود تيارات سياسية نمت في ظل قدر
معقول من الديمقراطية لحدثت حروب أهلية . يمكن أن يحدث اقتتال داخلي،
وعندها يتم الاستنجاد بقوى الأمم المتحدة وشرطي الكون أمريكا المنقذ
والهيرو الذي سيرى أن قيام دولة قبطية في الجنوب ومسلمة غرب النيل وضم شرق
النيل لإسرائيل التي لن تقف موقف المتفرج طبعا بل ستحرص أن يكون لها نصيب.
فقط أطرح هواجسي وأرميها بين يديكم لعلها هواجس رجل مجنون متشكك يجلس خلف
سواد نظارته أو نعيق غراب ينتظر أن يلقيه العقلاء بحجر. غير أني لا أستطيع
منع نفسي من البوح أو الصراخ أو النعيق أو النهيق . كل شيء وأي شيء غير
الصمت. وحده هذا الصمت الذي لا أستطيعه. لا أستطيعه. لا أستطيعه. لا
أستطيعه.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق