يوميات مشاغب 3
انتخابات برلمان 1984 م كنت وقتها في السنة قبل النهائية ، حين حددوا وقت
إجراء الانتخابات في شهر 5 من العام ، القرار حرق دمي لمَ يعنيه هذا الموعد
بالنسبة لكل طلاب مصر الجامعيين ، من انشغال بالامتحانات وما يترتب عليه من
حرماننا من المشاركة في العملية الانتخابية ، فلم أجد وقتها ما أفعله غير إعلان
رفضي لموعد الانتخابات، فذهبت لمقر الحزب الوطني بالزقازيق – وقابلت أمين عام
الحزب هناك، كان معي وقتها زميل الدراسة العزيز عزمي سعد وكنا طلاب في كلية
الصيدلة معا ومن القناطر الخيرية معا ومغتربين معا ونقيم معا في نفس السكن، وحين
دخلنا مكتب أمين عام الحزب عرفت نفسي: الطالب حازم وجيه كيوان وعرف عزمي نفسه:
الطالب عزمي سعد، وجلسنا وعرضت أسباب الزيارة، وتسجيل اعتراضي على موعد الانتخابات،
مع مقدمة على أهمية تسيس الشباب، ودور الشباب في العمل السياسي، وعرضت وجهة نظري،
ثم سكت، وبدأ الرجل يتكلم، طوف بنا الرجل في تاريخ مصر الحديثة من خلال قراءة
بلهاء لهذا التاريخ، وبشكل سطحي، ومغرض في أغلب الأحيان ، مرورا بالحقبة الناصرية
وما لها وما عليها ، ثم تحول مصر في عهد السادات لتعدد الأحزاب، ومناخ
الديموقراطية التي أعطت مجال للجماعات الإسلامية المحظورة لتتحرك على الأرض، ثم
بدأ في تمجيد الحقبة المباركية، وما نعمت به مصر من مناخ ديموقراطي ، وأن
الديموقراطية في مصر في عهدها الذهبي تعاني أزمة الخوف على وحدة الصف المصري، وأن
الجماعات الدينية تهدد السلام الاجتماعي ، وأن الحزب الوطني هو الضمانة لحقوق الأقباط في مصر، وأسهب
في هذه النقطة بشكل ممل، وأنا جالس أحاول أن أبدوا مهتما ، ولا أحاول أن أقاطع
الرجل الذي يزيد عمره عن ضعفي عمري، ثم أنتبهت للمشكلة الأساسية في الحوار – الرجل
يظن أننا أقباط – فأنا حازم وجيه كيوان والثاني عزمي سعد، وبدأت أسمع ما يقوله
الرجل من خلال هذا التفسير وأضحك في داخلي؛ ويبدو أن عزمي أيضا فهم الموضوع؛ فكانت
عيوننا حين تلتقي قدرا؛ نكاد أن ننفجر معا في الضحك، تركت الرجل ينهي حواره وأنا
في قمة الخوف أن تنفجر ضحكاتنا فتكون أزمة، ثم نظرت للأرض وقلت يجب أن نعيد
التعارف، أسمي حازم محمد وجيه كيوان، وهذا زميلي عزمي سعد حسن نصر، نحن من أبناء
هذا الوطن المسلمين، عزمي له ميول إسلامية بطبعه، وأنا شيوعي لو كنت تقبل هذا
التعريف، أو قل اشتراكي حتى لا نوقع أنفسنا في حرج، المشكلة أن الرجل له تاريخ في
الاتحاد الاشتراكي والحزب الوطني معا، وأنه يمدح الثورة، ويسب عبد الناصر، يمجد
الديموقراطية، ويؤكد على ضرورة إقصاء الإسلاميين من العمل السياسي، كل هذا كنت
أراه في وقتها تناقضات الحزب الوطني الفاسد، وتكلمت في هذا بوضوح، وطلبت في ختام
كلامي أن يسجل مطلبي بتعديل موعد الانتخابات ، وسلمت على الرجل وانصرفنا وكدت أنا
وعزمي أن نسقط من الضحك قبل الوصول لبوابة مقر الحزب، بعدها أكملت دورتي على باقي
الأحزاب وسجلت مطلبي مع دعوة كل القوى الحزبية لدعم هذا المطلب والتأكيد على
مشروعيته وأهميته.
سافرت في اليوم التالي -الثلاثاء- للقناطر حيث كان صباح الثلاثاء هو آخر
أيام الجدول الدراسي لدينا ، وعدت للقناطر الخيرية ، وحين عدت يوم السبت من
الجامعة على شقتي بالزقازيق رأيت غرفتي كما لو كانت تعرضت لحالة سطو، فأنا بصفتي
مدمن قراءة؛ كنت أشتري الكتب من سور الأزبكية ، وأرصها في صفوف بجوار الحائط بشكل
منظم جدا، وجدت الكتب قد فرشت في كل مكان بالغرفة، وحتى السرير قد أصابه إعصار على
ما يبدو، والبلكونة مفتوحة والأوراق في كل مكان. طبعا فهمت ما حدث، وشرعت في إعادة
بناء هيكلي بطريقتي المعهودة ، وأعدت تثبيت اللوحات على الحائط من جديد، وترتيب
صفوف كتبي ، واستعادة هيكلة السرير، ودخلت عملت شوية ملوخية ناشفة ورز وسلقت فرخة
وحمرتها وشوية سلطة، ورتبت المسائل على الآخر، وانتظرت عودة باقي الزملاء، دخلت
عملت كاسة شاي ووقفت أشربها على صوت فيروز في البلكونة كالعادة ، دقائق وزارني
الحاج محمد صاحب العمارة ، كان غاضبا مقفهرا كعادته لكنه يحاول أن يبدوا هادءا ،
أجلسته وحلفت عليه يشرب معي شاي؛ حتى أمتص غضبه، كان يحب هدوئي وخجلي وثقافتي نعم
، كان يضرب بشقتنا المثل بين الثلاث طوابق الأخرى المؤجرة لطلاب الجامعة ، فلم
يرفع منا أحد عينه في بنت من بناته أبدا، ولم يسمع لنا صوت صراخ ولا ضحك كما يحدث
من غيرنا من الطلاب في الشقق الباقية، إلا أنه نظر في عيني طويلا وكأنه يتردد في
الكلام وقال، شوف يا دكتور أحنا ناس منحبش المشاكل ولا وجع القلب، كنت خجلا لأني
أعلم أني سببت له أزمة أكيد، فوضعت عيني في الأرض واحمر وجهي الأبيض وبدأ العرق
ينضح من وجهي رغم برودة الجو، قال يوم الخميس جاءت الشرطة بالليل وكادوا يكسروا
باب العمارة، واتفزعنا كلنا، وطلعوا دوروا عليك وقالوا إنك شيوعي، شوفلك شقة ثاينة
يابن الناس إحنا مش ناقصين وجع قلب، قالها وقام لينصرف وأنا أنظر في الأرض خجلا
مما سببته للرجل من إزعاج.
قبل أن يخرج قال أنت باقيلك 10 أيام في الاجرة حاول تدبر حالك فيهم، سلمت
عليه ووعدته أني سأتصرف، واعتذرت له بشدة ووعدته أني سوف أخلي الشقة قبل نهاية
الشهر.
بعدها دخلت نمت وعاد الزملاء وأكلوا الفرخة والملوخية الناشفة والرز
والسلطة وأنا نائم.
وحين أخبرتهم بما كان ، بدأ الكل يفكر في البحث عن سكن جديد تضامنا معي ،
ولم أجد يومها لي شهية للطعام، وفي صباح اليوم التالي صعد لشقتنا أبن الحاج محمد
صاحب العمارة وكان طالب في كلية الهندسة، وأخبرني أن والده يطلب مني البقاء، وأن
أنسى ما قاله الوالد لي أمس.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق